فصل: قال ملا حويش:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ملا حويش:

تفسير سورة الجن:
عدد 40 – 72.
نزلت في مكة بعد الأعراف.
وهي ثمان وعشرون آية.
ومائتان وخمس وثمانون كلمة.
وثمانمائة وسبعون حرفا.
لا ناسخ ولا منسوخ فيها.
ومثلها في عدد الآي سورة نوح.
وبينا السور المبدوءة بكلمة {قل} وما يتعلق فيها في سورة الكافرين فراجعها.
(بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ)
قال تعالى يا سيد الرسل {قُلْ} لقومك وغيرهم من الإنس والجن والملائكة {أُوحِي} اليوم {إِليّ} من ربي {أنّهُ اسْتمع} قراءة القرآن بدلالة ذكره بعده وهذا مما حسن حذفه {نفرٌ} قال في المجمل النفر والرهط يستعمل إلى الأربعين، وقد وهم الحريري بقوله إنه يطلق على ما فوق العشرة وغلط غيره القائل بأنه ما بين الثلاثة إلى العشرة، واعلم أنه لا يختص بالرجال ولا بالناس كما قاله الآخرون لإطلاقه هنا على الجن، والفرق بينه وبين الرهط بأن الرهط يرجعون لأب واحد والنفر لآباء متفرقين، وهما اسما جمع لا واحد له من لفظه {مِن الْجِنِّ} وهم فصيلة على حدة قال تعالى: {والْجانّ خلقْناهُ (مِنْ قبْلُ) مِنْ نارِ السّمُومِ} الآية 28 من سور الحجر، وقد نسب إبليس عليه اللعنة إلى هذه الفصيلة بدليل قوله تعالى: {كان مِن الْجِنِّ ففسق عنْ أمْرِ ربِّهِ} الآية 52 من سورة الكهف أيضا.
هذا، وقد أمر سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يظهر لأصحابه رضوان اللّه عليهم واقعة الجن هذه معه ويطلعهم عليها، ليعلموا عموم رسالته، وأنه كما هو مبعوث إلى الإنس مبعوث إلى الجن أيضا، ولتعلم قريش بأسرها هذا وتحدث به غيرها، وليفطنوا أن الجن مع تمردهم وعتوهم لما سمعوا القرآن يتلى من قبله عرفوا أنه قول معجز لجميع الخلق وأنه لا يكون إلا من اللّه جل شأنه، فآمنوا به، وإعلام لقريش وغيرهم بأن المؤمن من الجن يدعو غيره للإيمان لشدة تأثيره في قلبه، عكس كفرة مكة وغيرهم من المشركين فإنهم يعرضون عن سماعه ويصرفون غيرهم عن الإيمان به، وينفّرونهم من سماعه لإيذاء حضرة الرسول قصد تكذيبه، وهو الصادق المصدوق الأمين المؤتمن.
وخلاصة ما جاء في هذه القصة هو ما رواه محمد بن اسحق عن زيد بن زياد عن محمد بن كعب القرفي قال: «لما انتهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، جلس لأشرافهم ودعاهم إلى اللّه والإيمان به بالقول والفعل، وأعلمهم بأنه رسوله إليهم كما هو لغيرهم، فلم يرد اللّه بهم خيرا، وذلك في بدء السنة العاشرة من البعثة، فأغروا به السفهاء والعبيد وآذوه بالقول والفعل، ولما أيس منهم صلى الله عليه وسلم رجع حتى كان ببطن نخلة قام من جوف الليل يصلي فمر به نفر من جنّ نصيبين (سبعة أو تسعة لم يثبت عددهم على الحقيقة والآية عامة والنفر يطلق على الواحد حتى الأربعين كما مر بك) كانوا قاصدين اليمن حين منعوا من استراق السمع من السماء ورموا بالشهب أكثر من ذي قبل احتراما لمبعث الرسول ومعجزة له وإكراما، فاستمعوا لقراءته حتي فرغ من صلاته، فآمنوا به صلى الله عليه وسلم إجابة لما سمعوه من القرآن».
وقال قتادة ذكر لنا ابن مسعود حين قدم الكوفة فرأى شيوخا شمطا من الزط فأفزعوه حين رآهم، قال أظهروا فقيل له إن هؤلاء قوم من الزط. فقال ما أشبههم بالنفر الذين صرفوا إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ليلة الجن، وفى رواية «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه إني أمرت أن أقرأ على الجن الليلة فأيكم يتبعني؟ فأطرقوا، ثم استتبعهم فأطرقوا، ثم استتبعهم الثالثة فتبعه عبد اللّه بن مسعود، قال ولم يحضر معه أحد غيره، فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة دخل نبي اللّه صلى الله عليه وسلم شعبا يقال له شعب الحجون وخط لي خطا ثم أمرني أن أجلس فيه، وقال لا تخرج منه حتى أعود إليك فانطلق عليهم فافتتح القرآن فجعلت أرى مثل النسور تهوي، وسمعت لغطا شديدا حتى خفت على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ورأيت غبشة أسودة كثيرة حالت بيني وبينه حتى لا أسمع صوته، ثم طفقوا ينقطعون مثل قطع السحاب ذاهبين، ففرغ رسول اللّه منهم مع الفجر، فانطلق إليّ فقال تمت؟ قلت لا واللّه يا رسول اللّه، لقد هممت مرارا أن أستغيث بالناس حتى سمعتك تقرعهم بعصاك، تقول لهم اجلسوا، فقال لو خرجت (من خطتك) لم آمن عليك أن يتخطفك بعضهم، ثم قال: هل رأيت شيئا؟ قلت نعم رأيت رجالا سودا عليهم ثياب بيض، قال أولئك جنّ نصيبين سألوني المتاع والزاد فمتعتهم بكل عظم حائل وروثة وبعرة، قالوا يا رسول اللّه يقذرها الناس علينا (فنهى صلى الله عليه وسلم أن يستنجى بالعظم والروث) فقلت يا رسول اللّه سمعت لغطا شديدا فقال إن الجن قد تدارأت (أي اختلفت فيما بينها وتدافعت في الخصومة) في قتيل قتل بينهم، فتحاكموا إليّ فقضيت بينهم بالحق» (هذا ينافي قول من قال إنه صلى الله عليه وسلم ما عرف ما ذا قال الجن وأي شيء فعلوا) بل تفيد أنه صلى الله عليه وسلم فهم منهم وأفهمهم، وإلا لما جاز أن يقضي بينهم، لأن القضاء لا يجوز إلا بعد معرفة قول المدعي والمدعى عليه، ولا يكون إلا بالإقرار أو البينة أو الحلف، وينافي القول أيضا بأنه لم ير الجن، فإذا كان ابن مسعود وهو محجّر عليه بعيد عنهم وآهم، فكيف به صلى الله عليه وسلم وقد أحاطوا به كالهالة في القمر؟ أما إذا قيل إنه صلى الله عليه وسلم لم يرهم على صورتهم التي خلقوا عليها فيجوز، لأنهم يتكيفون بصور مختلفة وهيئات متباينة، وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم رآهم.
بصفة الإنس كما مر في قول ابن مسعود رضي اللّه عنه، وكذلك كان يرى الملك بصورة دحية كما مرّ في بحث الوحي في المقدمة، قال «ثم تبرز صلى الله عليه وسلم وأتاني فقال هل معك ماء؟ قلت يا رسول اللّه معي أداوة (إناء فيه ماء كالجود للمسافر) فيها شيء من نبيذ التمر فاستدعاني فصببت على يده فتوضأ وقال ثمرة طيبة وماء طهور».
هذا، وقد ضعف هذا الحديث جماعة كما ذكره البيهقي في كتابه (الخلافيات) بأسانيد وأجاب عنها كلها، والذي صح عن علقمة قال: قلت لابن مسعود وهل صحب النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن منكم أحد؟ قال ما صحبه منا أحد. (فمن هنا ظهر ضعف حديث التوضؤ بنبيذ التمر إذ يقول فيه إن ابن مسعود صحب النبي صلى الله عليه وسلم فقط بعد أن قال ما قال، وهنا يقول هو نفسه ما صحبه منا أحد اللهم الا أن يريد ما صحبه غيره، تدبر.
على أن ابن تيمية قال إن ابن عباس علم ما دل عليه القرآن ولم يعلم ما علمه ابن مسعود وابو هريرة من إتيان الجن له صلى الله عليه وسلم ومكالمتهم إياه، وواقعة الجن هذه كانت قبل الهجرة بأكثر من ثلاث سنين قال الواقدي إنها وقعت سنة إحدى عشرة من النبوة، والصحيح ما ذكره البرزنجي أنها في العاشرة، لأنها قبل الإسراء، والإسراء وقع في العاشرة، فلا يصح أن تكون حادثة الجن بعده لأنها قبله على الصحيح. وقالوا إن قصة الجن وقعت مع النبي صلى الله عليه وسلم ست مرات) رجوع إلى قول ابن مسعود: «وقال ولكنا كنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فقصدناه فالتمسناه في الأودية والشعبات فقلنا استطير أو اغتيل، فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء فقلنا يا رسول اللّه فقدناك فطلبناك فلم نجدك فبتنا شر ليلة يأت بها قوم، قال أتاني داعي الجن فذهبت معه فقرأت عليهم القرآن، قال فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار منازلهم وسألوه الزاد فقال لكم كل عظم ذكر اسم اللّه عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون عليه لحما وكل بعرة علفا لدوابكم. فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فلا تستنجوا بهما فانهما طعام إخوانكم الجن».
زاد في رواية: قال الشعبي وكانوا من جن الجزيرة. أخرجه مسلم في صحيحه.

.مطلب رواية الجن ورمي النجوم:

هذا وإن في الحديث الأول إثبات رؤية الجن له صلى الله عليه وسلم وفي هذا الحديث أيضا، إلا أن ابن عباس أنكرها فيما رواه عنه البخاري ومسلم قال ابن عباس: «ما قرأ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم، ولكن انطلق في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسل عليهم الشهب فرجعت الشياطين إلى قومهم، فقالوا ما لكم، قالوا حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب! قالوا وما ذاك إلا من شيء قد حدث، فأضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فمر النفر الذين أخذوا نحو تهامة بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو بنخلة عامدين إلى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا اليه وقالوا هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء، فرجعوا إلى قومهم {فقالوا يا قومنا إِنّا سمِعْنا قرآنا عجبا يهْدِي إِلى الرُّشْدِ فآمنّا بِهِ ولنْ نُشْرِك بِربِّنا أحدا} فأنزل اللّه على نبيه {قُلْ أُوحِي} إلخ»، زاد في رواية: وإنما أوحي إليّه قول الجن- أخرجاه في الصحيحين- قال القرطبي في شرح مسلم في حديث ابن عباس: هذا معناه لم يقصدهم بالقراءة بل لما تفرقوا يطلبون الخبر الذي حال بينهم وبين خبر السماء، أي استراق السمع صادف هؤلاء النفر رسول اللّه يصلي بأصحابه، وعلى هذا فهو صلى الله عليه وسلم لم يعلم باستماعهم ولم يكلمهم وإنما أعلمه اللّه عز وجل بما أوحى اليه من قوله: {قل أوحي} إلخ، وإنما حديث ابن مسعود فقضية أخرى وجنّ آخرون ولهذا البحث صلة في تفسير الآية 29 من سورة الأحقاف والحاصل من الكتاب والسنة أن الجن موجودون متعبدون بالأحكام الشرعية على ما يليق بحقهم وحالهم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كما هو رسول إلى الإنس رسول إلى الجن، فمن آمن به فهو مع المؤمنين في الدنيا والآخرة والجنة، ومن كفر به فهو مع الشياطين والكافرين المبعدين المعذبين في جهنم، وانه صلى الله عليه وسلم رآهم رؤية بصرية لا بصورتهم الحقيقية كما في هذه الأحاديث وفيما أوردناه في تفسير الآية (200) من الأعراف المارة- في الجزء الاول- وفي لآية 25 من سورة ص المارة أيضا.
ويفهم من هذا الحديث أن الرجم بالنجوم لم يكن قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم على أن الزهري روى عن علي بن الحسن رضي اللّه عنهما عن ابن عباس قال «بينا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم جالس في نفر من الأنصار إذ رمي بنجم فاستنار، فقال ما كنتم تقولون في مثل هذا في الجاهلية؟ قالوا كنا نقول يموت عظيم أو يولد عظيم،» وروى عن معمر قال قلت المزهري أكان الرمي بالنجوم في الجاهلية؟ قال نعم قلت رأيت قوله تعالى: {وأنّا كُنّا نقْعُدُ مِنْها مقاعِد لِلسّمْعِ} الآية الآتية، قال غلّفت وشدد أمرها حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن ابن قتيبة مثله، وبهذا ارتفع التعارض بين الحديثين ويظهر من هذا كله أن الجن موجودون وأن النبي رآهم وأنهم مكلفون مثل البشر، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم مرسل إليهم وأن رميهم بالشهب كان قبلا وزاد بمبعثه، وان الاعتقاد بذلك كله واجب.
وأن العرب كانت تعرف الرمي قبل الإسلام لوجود ذكره في أشعارهم في الجاهلية قال بشر ابن أبي حازم:
والعير يرهقها الغبار وجحشها ** ينقض خلفها انقضاض الكوكب

وقال اويس بن حجر:
وانقض كالدري يتبعه ** نقع يثور تخاله طينا

وقال عوف بن الجزع يصف فرسا:
يرد علينا العير من دون الفه ** أو الثور كالدري يتبعه الدم

فهؤلاء جاهليون لا مخضرم فيهم فلو لم تكن قبلا لما نطق بها هؤلاء أما ماهية الجنّ فمختلف فيها، فمنهم من قال إن الجن جسم هوائي يتشكل بأشكال مختلفة، ومنهم من قال انها جواهر ليست بأجسام ولا أعراض وتختلف ماهيتها بعضها عن بعض، فمنها خيّرة كريمة محبة للخيرات، ومنها خسيسة دنيئة شريرة ولعة بالقبائح والآفات، ومنهم من قال إنهم حاصلون في الحيّز موصوفون بالطول والعرض والعمق، فمنهم اللطيف ومنهم، الكثيف، والعلوي والسفلي، ولا يمنع من هذا أن يكون لهم علم مخصوص وقدرة مخصوصة على الأفعال العجيبة التي يعجز عنها البشر كما أشار اليه في سورة ص الآية 27 المارة، وما سيأتي في الآيتين 16،39 من سورة النمل، والآيتين 11، 12 من سورة سبأ والآية 82 من الأنبياء، وغيرها مما نورده في محله إن شاء اللّه، وذلك بإقدار اللّه إياهم، فمن أنكر شيئا مما تقوم فهو على غير طريقة أهل السنة والجماعة، وإنّ ما أجمعوا عليه في هذا الشأن مستند للكتاب والسنة كما علمت، وان ما تمسّك به المنكرون من أنه لابد من صلابة البنية حتى تكون النفس المتلبسة بها قادرة على الأفعال الشاقة وأن البنية شرط للحياة ولا حياة بلا بنية، كلها أقوال واهية استدرجوا بها لإنكار وجود الجنّ ولم يعلموا أن انكارهم إنكار للقرآن إن كانوا مسلمين وللتوراة والإنجيل ان كانوا يهودا أو نصارى، وهو كفر بحت والعياذ باللّه، لأن القادر على خلقهم قادر أن يضع فيهم صلابة بالبنية وحياة فيها، وقدرة على الأفعال الشاقة وغيرها، على أن هناك جمعا عظيما من قدماء الفلاسفة وأصحاب الروحانيات اعترفوا بوجودهم وسموهم بالأرواح السفلية، وزعموا أنها جواهر قائمة بأنفسها ليست أجساما ولا جسمانية، هذا وقد اختلف العلماء فيما سمعوه من القرآن أيضا قيل (اقرأ بِاسْمِ ربِّك) وقيل غيرها، إلا أن ما قيل إنه سورة الرحمن لا يصحّ لأنها نزلت بالمدينة وقضية الجنّ في مكة بلا خلاف، وما رواه جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «خرج رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على أصحابه فقرأ عليهم سورة الرحمن من أولها إلى آخرها فسكتوا، فقال لقد قرأتها ليلة الجن على الجن فكانوا أحسن مردودا منكم، كنت كلما أتيت على قوله تعالى: {فبِأيِّ آلاءِ ربِّكُما تُكذِّبانِ} قالوا لا بشيء من نعمك ربّنا نكذّب، فلك الحمد»، أخرجه الترمذي وقال حديث غريب، وفي رواية «كانوا أحسن منكم ردا» فإنه أي هذا الحديث على فرض صحته عبارة عن حكاية ذكرها لأصحابه حضرة الرسول لا يعلم تاريخها فلا يصح الاستدلال بها لاحتمال وقوعها في المدينة وهو الأقرب للمعقول، لأن الرسول اجتمع كثيرا مع الجن وقد ذكرنا آنفا انه اجتمع معهم ست مرات، وأنت خبير بأن الدليل إذا طرقه الاحتمال أبطل الاستدلال به، تأمل هذا: واعلم أن القرآن ذكر حادثتين في استماع الجن في هذه السورة وفي الآية 39 فما بعدها من سورة الأحقاف، وأن اللّه قصّها علينا بواسطة رسوله على طريق الحكاية، ولا يبعد أن حضرة الرسول قرأ عليهم غيرها في مكة أو المدينة بعد أن ذكروا أن الاجتماع بهم كان ست مرات، قال تعالى حاكيا ما قاله الجن عند سماعهم قراءة رسوله {فقالوا} بعضهم لبعض {إِنّا سمِعْنا قرآنا عجبا} 1 ما سمعنا مثله، بديعا في حسن نظمه، بالغا في صحة معانيه، لطيفا في تركيب مبانيه، مباينا لكلام البشر، وجدير أن يتعجب منه لأنه {يهْدِي إِلى الرُّشْدِ} الحق والصواب والعدل والسداد، يقرأ بسكون الشين وضمها وبفتح الراء والشين وضمها {فآمنّا بِهِ} لما سمعناه إذ تحقق لدينا أنه كلام اللّه، وأن البشر يعجز عن مثله، وإنا رجعنا عن الإشراك بمنزل هذا القرآن {ولنْ نُشْرِك} من الآن فصاعدا {بِربِّنا أحدا} 2
ولا شيئا من كافة الأوثان، وتدل هذه الآية على أن هؤلاء الجن كانوا مشركين، لذلك تبرأوا من الشرك ونزهوا ربهم عما يقوله الظالمون من اتخاذ الصاحبة والولد بقولهم {وأنّهُ تعالى جدُّ ربِّنا ما اتّخذ صاحِبة ولا ولدا} 3 كما يزعمه المشركون، لأن الصاحبة تتخذ للحاجة والولد للاستئناس والمعونة، واللّه منزه عن ذلك كله.
قال أنس: كان الرجل إذا قرأ سورة البقرة وآل عمران جدّ فينا أي عظم.
ويطلق الجد على الغني، منه قوله صلى الله عليه وسلم: «ولا ينفع ذا الجدّ منك الجد» {وأنّهُ كان يقول سفِيهُنا} إبليس عليه اللعنة لتعريفه بالإضافة إليهم، وقيل إن الضمير في سفيهنا يعود إلى المردة منهم، فتكون الإضافة للجنس، وهو بعيد لأن الظاهر يأباه {على اللّهِ شططا} 4 كذبا تجاوزا عليه عدوانا وكفرا إذ تبين لنا كذب قوله من إسناد الشريك والصاحبة والولد إليه تعالى عن ذلك {وأنّا ظننّا} قبل أن نسمع هذا القرآن من الرسول محمد {أنْ لنْ تقول الْإِنْسُ والْجِنُّ على اللّهِ كذِبا} 5 لأنهم يقولون لنا ذلك ويؤكدون أقوالهم بالإيمان بأن للّه ولدا وصاحبة وشريكا، وكنا نصدق لأنا لا نعرف أن أحدا يحلف باللّه كاذبا، وقد ظهر لنا الآن أنه منزه عن ذلك كله، وأنهم كانوا يكذبون علينا وعلى خالقهم جل شأنه {وأنّهُ كان رِجالٌ مِن الْإِنْسِ يعُوذُون بِرِجالٍ مِن الْجِنِّ} وذلك أن الجاهلية كانوا اعتادوا إذا أمسى أحدهم في أرض قفر يقولون إنا نعوذ بسيّد هذا الوادي من شر سفهاء قومه، فيقول عظماء الجن سدنا الإنس أيضا.
روى البغوي بإسناد الثعلبي عن أبي السائد الأنصاري قال: خرجت مع أبي إلى المدينة في حاجة وذاك أول ذكر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بمكة، فآوانا المبيت إلى راعي غنم، فلما انتصف الليل جاء ذئب فأخذ حملا من الغنم، فوثب الراعي فقال يا عامر الوادي جارك، فنادى مناد لا نراه يا سرحان أرسله، فإذا الحمل يشتد حتى دخل الغنم ولم تصبه كدمة، فأنزل اللّه على رسوله بمكة هذه الآية {فزادُوهُمْ رهقا} 6 الرهق في كلام العرب الإثم وغشيان المحارم.
قال الأعشى:
لا شيء ينفعني من دون رؤيتها ** لا يشتفي رامق ما لم يصب رهقا

والمعنى أن الإنس زادوا الجن طغيانا وسفها وكبرياء بسبب استعاذتهم بهم {وأنّهُمْ} كفرة الجن وسفهاؤهم {ظنُّوا كما ظننْتُمْ} يا معشر الكفار من الإنس، هذا على عود الضمير في أنهم وفي ظنوا للجن، وضمير ظننتم للإنس، وهو أولى من عود الأولين للإنس والثالث للجن مراعاة للسياق، أي أن كفار الجن كالإنس كانوا تيقنوا قبل سماعهم القرآن {أنْ لنْ يبْعث اللّهُ أحدا} 7 بعد موته، أي أنهم كانوا ينكرون بالبعث أيضا مثل الكفرة من الإنس وأنهم اهتدوا ورجعوا عما كانوا عليه حال سماعهم القرآن، فما بالكم يا كفار قريش لم تؤمنوا وقد سمعتم كثيرا من كلام اللّه، أما آن لكم أن تكونوا مثلهم فتؤمنوا بالبعث بعد الموت وتتركوا الإشراك باللّه وتفردوا ربكم الإله الواحد بالربوبية وبكل ما تأملونه من خير الدنيا والآخرة؟ ألم تساووا الجن بالإيمان بالرسول وما جاء به من عند اللّه؟
قال تعالى حكاية عنهم أيضا {وأنّا لمسْنا} وجسسنا {السّماء} طلبا لبلوغها واستماع كلام من فيها كما كانت العادة قبلا {فوجدْناها مُلِئتْ حرسا شدِيدا} من الملائكة أكثر من ذي قبل بأضعاف كثيرة جدا {وشُهُبا} 8 تنقض من نجومها المضيئة علينا بكثرة أيضا خلافا لما كانت عليه قبلا {وأنّا كُنّا} قبل مبعث النبي محمد {نقْعُدُ مِنْها} أي السماء {مقاعِد لِلسّمْعِ} فنسترق ما يقع فيها من بعض القول حيث كنا نجد أمكنه في السماء خالية من الحرص وبعض المواقع منها عارية من الشهب، أما الآن فكلها ملأى من الحرس والشهب بكثرة لم تعهدها قبل، لذلك ماعدنا نقعد فيها خوفا أن نحترق {فمنْ يسْتمِعِ الْآن} بعد مبعث حضرة الرسول وإلى ما شاء اللّه {يجِدْ لهُ شِهابا رصدا} 9 يرمى به حالا فكان الشهب تترصد من يطلب الاستماع في السماء فترميه حالا وتحرقه.
قال ابن عباس كانت الجن تصعد إلى السماء لتستمع الوحي، فإذا سمعوا الكلمة زادوا عليها تسعا فيحدثون ويبلغونها إلى الكهنة، فلما بعث صلى الله عليه وسلم منعوا مقاعدهم، فذكروا ذلك لإبليس، ولهذا كانت الناس تتهافت على الكهنة تهافت الفراش على النار فيعظمونهم ويحترمونهم ويسألونهم عن مصالحهم الحاضرة والمستقبلة، لأنهم قد يصدقون لأن ما يلقيه الجن إليهم من الكلام إذا صادف الحادثة تناقلها الناس بأن الكاهن أخبر بالغيب، فيعكفون عليه ويأخذ الشهرة بسببها، فإذا زاد عليها تسع كذبات يسمع منه ويصدق به أيضا من أجل صدقه في تلك، فيكونون قد ضلوا وأضلوا (وقد ذكرنا آنفا أن رمي النجوم بالشهب قديما وإنما زاد بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم) فقال لهم إبليس ما هذا من أمر قد حدث في الأرض، فبعث جنوده يتحرون الخبر، فوجدوا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قائما يصلي بين جبلين (أراه قال بمكة) فأخبروه فقال هذا الحدث في الأرض، أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح، وتقدم ما بمعناه بأوضح منه {وأنّا لا ندْرِي أشرٌّ أُرِيد بِمنْ فِي الْأرْضِ} حتى حرست السماء ورميت بالشهب ومنعنا من استراق السمع وحرمنا من أخبارها التي تلقيها الكهنة ليفيضوها على العامة {أمْ أراد بِهِمْ ربُّهُمْ رشدا} 10 من خير ورحمة وهدى {وأنّا مِنّا الصّالِحُون} في معاملتهم بعضهم مع بعض وسائر الخلق لا يريدون إلا الخير {ومِنّا دُون ذلِك} يخلطون عملا صالحا وآخر سيئا مع أنفسهم وغيرهم لانا {كُنّا طرائِق قِددا} 11 جماعات متفرقين وأصنافا متقطعين مسلمين كاملين ومسلمين فاسقين وآخرين كافرين مثل الإنس الآن، إذ منهم المؤمن والكافر والفاسق وبين ذلك، كالنصيرية والدروز والإسماعيلية والعلوية والرافضة والقدرية والمرجئة والكرامية والدهرية وغيرهم، فرقا متباينة بالأخلاق والعادات والتدين {وأنّا ظننّا} تحققنا وأيقنا، وهكذا كلّ ظن في القرآن يكون معناه اليقين {أنْ لنْ نُعْجِز اللّه فِي الْأرْضِ} إذا فررنا في أقطارها فإنا نكون في قبضة متى أراد {ولنْ نُعْجِزهُ هربا} 12 إلى آفاق السماء ولانا تحققنا أنه قادر علينا أينما كنا لانفلت من قبضته ولا مقر لنا منه أبدا كيف وهو جل جلاله يقول: {والْأرْضُ جمِيعا قبْضتُهُ يوْم الْقِيامةِ والسّماواتُ مطْوِيّاتٌ بِيمِينِهِ} الآية 66 من سورة الزمر هذا {وأنّا لمّا سمِعْنا الْهُدى} من حضرة الرسول {آمنّا بِهِ} أي القرآن الذي قرأه علينا المعبر عنه بالهدى جزمنا بأنه من اللّه وآمنا به وبمن أنزله عليه المرسل لهداية الخلق إنسهم وجنهم {فمنْ يُؤْمِنْ بِربِّهِ} بعد أن رأى أن الإيمان به واجب حق ايمانا كاملا {فلا يخافُ بخْسا} نقصا في عمله وفي ثوابه {ولا رهقا} 13 يغشاه من إثم ومذلة أو مكروه مطلقا، أنظروا أيها الناس جنّا آمنت بمحمد صلى الله عليه وسلم لأول وهلة رأته وسمعت منه دون حاجة أتردد، فكر، وإنسا تتلى عليهم آيات اللّه منه ليل نهار، وهو معروف عندهم في صدقه وأمانته ونسبه ولم يؤمنوا، صدق اللّه {منْ يهْدِ اللّهُ فهُو الْمُهْتدِ ومنْ يُضْلِلْ فلنْ تجِد لهُ ولِيّا مُرْشِدا} الآية 17 من سورة الكهف {وأنّا مِنّا الْمُسْلِمُون ومِنّا الْقاسِطُون} الجائرون من أسماء الأضداد، إذ يأتي بمعنى العادلين المستقيمين على الحق والعادلين عنه والعادل من الأضداد أيضا لأنه بمعنى المائلين عنه، والمائلون من الأضداد أيضا لأنه يقال مال إلى الحق ومال عنه، واعلم بأن قسط بمعنى جار فحسب، وأقسط بمعنى جار وعدل، ولا يقال اعدل في الحكم بل عدل به، ويحتمل المعنيين {فمنْ أسْلم} نفسه إلى ربه وآمن بما جاء به رسوله وسلم الناس من لسانه ويده {فأُولئِك تحرّوْا رشدا} 14 طلبوا لأنفسهم الهدى والصواب، لأن من يجتهد طلبا للحق يو...